سر رمضان  (قائمة المقالات)

 


أهلا و سهلا بالشهر الفضيل، و لكم أتمنى أن يكون في مكنون العلم أسرار تفضيل هذا الشهر عن باقي أشهر السنة، و كم أتمنى أن أشهد موقع طاقات الكون و حركة الكواكب و علاقتها بطاقة و كيان هذا الإنسان. لا شك في أن موعد هذا الشهر مربوط بالعديد من الأسرار الكونية، و لا شك من وجود علاقة وثيقة بين هذا الموعد و موقع الروح و البركة في مواقع الأجرام و الأكوان. و لكن يمكننا دائما أن نعود إلى نقطة الأصل و الفصل. نعم، شهر رمضان هو شهر وعي، ليس شهر تكرار لعادات و تقاليد اكتسبناها عن "آباءنا و أجدادنا". ذكر الإمام علي في حين أن تكليف الإنسان كاف بوجود العقل لديه، و إنما نزلت الشريعة لطفا من الله بالناس... لو كنا على وعي لما وجب نزول الشريعة، و لو كنا على وعي لأدركنا و صمنا ميقات هذا الشهر دون أن يلزم أن تُسطر في كتاب و دين، لصمنا لأننا كنا سندرك عِلما ميقات و مكان هذا الشهر ، و ليس لأنه نزل فرضا على بني آدم بعد أن ازددنا و ازددنا في الجهل.

الدين رحمة، لأنه نزل لطفا من الخالق لكي يحاول تقويم حال هذا الإنسان، هو رحمة لا تقاس بميزان لأننا بجهلنا نستحق ردة فعل كونية مقابل ما نفعله بأنفسنا، بأجسادنا، بغيرنا و بالطبيعة من حولنا. لكن الله اختار أن يُمهل، و أن ينزّل على هذا الإنسان القانون بعد الآخر ليقوّم حاله. و السؤال، هل بدأنا نعيش هذا الوعي؟ أم لا زلنا نتخبّط بالجهل؟

ذكر الحبيب تكرارا و تكرارا أن ساعة التأمل خير من عبادة سبعين عام. و لو عاش الإنسان آلف عام لقال خير من عبادة ألف عام... و لكن لماذا؟ لأن غاية وجودنا في هذا الكون هي أن نفهم أنفسنا و أن نفهم هذا الكون من حولنا، و بذلك نصبح أهلا لأن نقدّر و نفهم عظمة ما هو من حولنا و بهذا عظمة الخالق لهذا الكون. إن قضينا العمر كله في صلاة و صوم دون أن نحاول أن نتأمل و نفهم فكيف يمكن أن ترتقي أنفسنا لفهم هذا الإعجاز الكوني من حولنا؟ ما الهدف إذا بقينا على جهلنا؟ إذا بقينا أمة انتقاد و صراع و جدال؟

لننظر حولنا، و لننظر إلى أنفسنا، لنتأمل في عاداتنا اليومية، في حاجاتنا، في عواطفنا، و في دوافعنا. نعم هذا هو التأمل، من عرف نفسه عرف ربه، حين نعرف أنفسنا، و نقوم بفك العُقد العاطفية الموجودة لدينا تعود الفطرة، التمييز الحق بين ما هو صواب و ما هو من الجهل. و لا يكون هذا إلى بفهمنا لأنفسنا، دون مساومة أيّما كانت.

و هنا، هل سيكون شهر رمضان مجددا تكرار لعادات و تقاليد؟ أم سيكون فرصة للعزلة و الصفاء الفكري و التأمل في أنفسنا المتخبطة بين العواطف و الحاجات؟ إن لم نتأمل في هذه النفس، فمصيرنا أن نكرر الخطأ، و هذا للأسف ما أمسينا نفعله منذ عشرات، مئات و ألوف السنوات. و لكن الحبيب أكّد مرارا أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، لم؟ لأن المؤمن هو من يخطو كل خطوة بوعي، و بهذا لا يمكن أن يصيب جهلا مرتين، فالإنسان الواعي لا يمكن أن يكرر الخطأ، هنا صميم الإيمان و حقيقة الإسلام.

و لكن لِم الصوم؟ و كيف يكون الصوم؟ هل نستطيع أن نقول أننا نصوم الصوم الحق؟ أعني بالامتناع عن الطعام من الفجر إلى المغرب ثم الإسراف و التخبيص في كل أنواع الطعام؟ هل هذا هو الصوم؟ هل هنا نكون قد أدركنا الغاية من الصوم؟

ما الغاية في العمل دون وجود الوعي، الفطرة اليَقِظة تسأل دائما... و رمضان فيه من الأسرار الكونية ما هو أبعد بكثير من بضعة العلم التي لدينا... و لكن تعود بنا الجذور إلى الأسئلة الفطرية التي نحاول بها فهم هذا الوجود. حين ندرك أن وجودنا أبعد من الوجود الجسدي المادي نبدأ في الإبحار في عالم من الأسئلة و التأملات التي تحاول فهم هذه الطاقة التي تُرجمت إلى كيان و وجود جسدي. و هنا نجد أن علم الصوم ينبع منذ آلاف و آلاف من السنوات حين وجد المعلمين أن الصوم يقوي الرابطة المادية الجسدية بالطاقات الكونية التي تعلو هذا الوجود المادي، بمجرد صفاء الجسد و الذهن، نشعر بحرارة تجري في الجسد نابعة من مركز الجسد في أسفل منطقة الظهر، الشرق يسمونها طاقة الحياة، الغرب يسمونها الأثير. مهما كانت التسمية، فإن العلم قد أثبت على مر السنوات وجودا أثيريا أرقى من هذا الوجود المادي، و منه يستمد هذا الجسد طاقته الحقيقية، و حين تركيزه تتكون المادة. فهل يمكن أن تكون هنالك علاقة بين الصوم بابا للارتقاء الروحي و بين الوعي بوجود هذه الارتقاءات لطاقة المادة؟ و الأهم، ما تأثير العادات التي نقوم بها في رمضان من إسراف في وجبات متتابعة و غير متوافقة على إعادة وصل هذا الجسد بالطاقة الكونية و إدخاله مجددا في دائرة الطبيعة التي خرجنا منها بسبب نمط حياتنا المضطرب... هل يمكن أن نكون قائمين على ما هو النقيض لما أتى رمضان ليوكّد و يعلّم.

صوموا تصحوا... هل قالها الحبيب عن جهل؟ أم أننا نفهم أكثر الان بمعداتنا الطبية و شهادات الدكتوراه التي لدينا؟ لماذا أكدها الحبيب و قالها الحكماء منذ آلاف السنين؟ قد تكون لدينا معدات أكثر تطورا من ما كان لديهم، و لكننا قوم فقدنا الحكمة، و هم قالوا ما قالوا بعد أن قضوا سنوات و سنوات متأملين في الكون، في الإنسان، في الجسد و في عمل الطبيعة. إذا آلمنا رأسنا نسرع إلى حبة دواء لنزيل الألم، و لكن من منا يحاول فهم المصدر الذي أدى لتشكّل هذا الألم بدل أن نقوم بإطفاء الجرس الذي يحاول أن يدلنا على وجود المشكلة. لماذا صوموا تصحوا؟ لسبب بسيط و هو أننا بسبب نمط حياتنا و طعامنا غير الطبيعي قمنا بإخلال توازن هذا الجسد و بالتالي ظهرت العلّة، و حين نصوّب بالامتناع عن الطعام، فإننا نعطي هذا الجسد المجال ليقوم بطرح الفضلات منه و ثم بإعادة التوازن الطبيعي إلى نظامه. هنالك العديد من التجارب المذهلة التي قام بها الباحثون، حين أتوا بأشخاص يعانون من نقص في معادن معينة، و وضعوهم على نظام صيام على الماء، و في نهاية المدة وجدوا أن الجسم لم يعد يعاني من مشاكل النقص! دون أخذ هذه المعادن من أي مصدر خارجي!! نعم... يستطيع الجسد أن يقوم بإزالة المشكلة و إعادة التوازن إذا ما قمنا بإصلاح نمط الحياة و إزالة سبب إخلال التوازن. و السؤال، هل نقوم بأي من هذا حين نمتنع عن الأكل إلى المغرب، ثم نقوم بصعق الجسد بأنواع مختلفة من الطعام دون أي وعي أو إدراك؟ مازجين الحلو بالمالح، الشوربة بالعصائر، الخضار بالفاكهة، اللحوم بالحلويات، غير المواد الكيميائية التي باتت جزءا من التصنيع الغذائي المقبول في هذا العصر. هل يمكن حقا أن نكون قد قلبنا رمضان إلى مرضان؟ شهر الوعي و الصحة و الحكمة إلى شهر التخمة و المرض و الجهل؟ و كلّه بأننا نكرر و نكرر ما نفعل دون وعي و حكمة؟

هنا دورنا، و ليس الدور في رمضان فحسب، بل في كل يوم، ساعة و ثانية. إذا غاب الوعي وقعنا في الجهل، و هذه هي المشكلة الأزلية التي بات الإنسان يعيش بسببها في هذا المطب الحضاري الذي نعيشه إلى اليوم. و سنبقى نعيشه إلى أن نختار أن نوقظ الوعي و أن لا تكون أي خطوة من خطواتنا إلّا عن إدراك مستمد من الفطرة التي فطرنا عليها.

ليكن رمضان، و يكن كل يوم شاهدا على عودة هذا الإنسان إلى مكانه في الطبيعة، عندها، يمكن لنا أن نسمو بتسخير نعمة العقل التي تميّزنا بها عن سائر المخلوقات في تعمير هذا العالم. لنشكر لطف الخالق بجهلنا، و لنرد هذا اللطف بالوعي و بمعرفة النفس، لأنه بمعرفة النفس نخرج من دائرة العاطفة و الجدال و الصراع، إلى دائرة الحب و الرحمة و الوحدة. و هنا نعيش دورنا الذي خلقنا لأجله، هنا يكون الله فينا، فحين لا تكون النفس و الحاجة و العاطفة هي الدافع، تكون كل خطوة نابعة من الوعي و الإدراك، من الفطرة، من الله.

f